الأكثرية الجديدة.. والفرص الضائعة

لم تكد موجة التفاؤل الجديدة تنتشر على الساحة اللبنانية ويستبشر اللبنانيون خيراً، حتى استلهم الرئيس ميقاتي عقداً وشروطاً جديدة؛ برفض توزير هذا، ووضع فيتو على ذاك من اللبنانيين، في ظاهرة فوقية تؤكد أن الحريرية تريد أن تستمر بنهجها وفسادها واستئثارها و”معاقبة من يتجرأ على عصيان الأوامر الملكية”، ومن خلال الوكيل هذه المرة وليس الأصيل.

منذ عام 2005 ولغاية الآن لم تؤلف حكومة لبنانية إلا على وقع التطورات الإقليمية، وبالرغم من تبدل الأكثرية لأول مرة منذ ذلك التاريخ، لم يتبدل الحال وما زال اللبنانيون بانتظار مؤشرات خارجية ترد إلى سليمان وميقاتي عبر الحدود تحملها إليهما السفيرة الأميركية للمباشرة في تشكيل الحكومة.

منذ تكليفه والرئيس ميقاتي ينتظر تطورات خارجية تأتيه بالخبر اليقين، وتعطيه الضوء الأخضر للانطلاق في حكومته العتيدة، التي بات من المؤكد أنها إذا ولدت، فستولد طفلاً هجيناً، بعدما فقدت الثقة تماماً بينه وبين الأكثرية الجديدة التي سيشكل منها حكومته ويختار منها الوزراء، فكيف ستعمل حكومة لا ثقة بين رئيسها ووزرائها منذ الآن، بل إن هناك نوع من العداء بينهما يزداد يوماً بعد آخر!

مع انتظاره الأولي لصدور قرار يتهم حزب الله ويبدل موازين القوى الداخلية ويحرج الأكثرية الجديدة، أخّر الرئيس ميقاتي تشكيل الحكومة شهرين، إلى أن اندلعت الأحداث الأمنية في سورية في آذار الماضي، فبات اللبنانيون يعيشون على وقع الأخبار القادمة من سورية، فيتأرجح منسوب التفاؤل والتشاؤم الحكومي بحسب الواقع الميداني هناك.

وهكذا انتشرت موجات التفاؤل في لبنان الأسبوع الماضي مع وصول أخبار عن حسم ميداني سوري في المناطق التي شهدت أعمال عنف سابقة، وتصريحات أميركية وأوروبية أشارت بتسليم غربي بما فرضته موازين القوى على الأرض. لكن الدخول التركي على خط التدخل العسكري في سورية في جسر الشغور المحاذية للحدود التركية، عاد وقلب موجات التفاؤل إلى تشاؤم ومراوحة، فتراجع ميقاتي وأعلن عدم قبوله الوزير شربل نحاس وزيراً للاتصالات، لعلمه الأكيد أن الأكثرية بشكل عام والتيار الوطني الحر بشكل خاص لن يقبل بهذا التعامل الفوقي، ولن يقبل أن يملي الحريريون عليه أسماء وزرائه من خلال ميقاتي، لا بل إن تنازل الأكثرية عن توزير شربل نحاس في وزارة الاتصالات سيؤسس لإحباط شعبي وحنق لن تسلم من تداعياته الأكثرية الجديدة نفسها.

عادت الحكومة اللبنانية إلى نقطة الصفر، بعد ما حصل في جسر الشغور من تدخل عسكري تركي، وتحوّل التدخل التركي في الشؤون السورية من تدخل سياسي إعلامي إلى تدخل عسكري ينتهك سيادة الدولة السورية، وبالرغم من نفي وزير الخارجية التركي لأي تدخل تركي في الشؤون السورية، إلا أن التصريحات السياسية التركية المتمادية، واجتماع المعارضة السورية، وما تبعه من عمليات عسكرية في جسر الشغور، يؤكدون حصول تدخل عسكري وانتهاك للسيادة السورية.

علمياً، ينقسم التدخل العسكري إلى أنواع، منها المباشر وغير المباشر:

•-         التدخل العسكري المباشر يحدث عندما تتدخل إحدى الدول في شؤون دولة أخرى باستعمال القوة العسكرية النظامية، أي بإرسال وحدات من جيشها الوطني إلى دولة أخرى، وقد يكون بإرسال الدولة وحدات عسكرية غير نظامية تابعة لأحد طرفي النزاع القائم في الدولة الأخرى بعد قيام الدولة المرسلة بتدريب وتجهيز تلك الوحدات، وتسمى هذه الحروب عادةً “الحروب بالوكالة”proxy wars. يفترض هذا النوع من التدخل بشكل عام، أن تكون للدولة المتدخلة قوة عسكرية كافية تستطيع من خلالها أن تغيّر موازين القوى في الميدان، أو تستطيع من خلال قدراتها العسكرية تشكيل تهديد كاف للدولة الأضعف بحيث تعمد إلى تغيير في سلوكها أو قراراتها بدون الحاجة إلى استعمال القوة العسكرية فعليًا.

•-         أما التدخل العسكري غير المباشر، والذي قد لا يوازي خطورة التدخل العسكري المباشر في دولة أخرى، ولكنه لا يقل أهمية عنه، بالرغم من أن هذا التدخل يبقى سرياً عادة، وأحياناً كثيرة لا يتم الاعتراف بحصوله.

يتجسد هذا الشكل من التدخل بأساليب عدة منها أن تقوم دولة ما أو دول عدة بتزويد أحد أطراف النزاع المحليين في دولة أخرى بالعتاد الحربي، أو تدريبه على استخدام الأسلحة، أو تقدم له المعونات المالية لتمكينه من شراء الأسلحة وغيرها من دولة ثالثة. وقد يحدث هذا أيضاً عن طريق قيام الدولة المتدخلة بحملات دعائية، وإصدار بيانات رسمية وتشريعات بقصد التحريض على الثورة أو التمرد أو الخيانة أو الانقلاب على النظام في الدولة المتدخل في شؤونها.

وهذا بالضبط ما تقوم به بعض الدول العربية في سورية، وما اتضح أن تركيا تقوم به في جسر الشغور بالرغم من إنكار الجميع حصول هذا الأمر. ويعول الفريق الأميركي في المنطقة اليوم، على أن تقوم التنظيمات المسلحة في سورية بالسيطرة على منطقة بكاملها فينقلب المشهد السوري إلى بنغازي أخرى، ويتكرر السيناريو الليبي، وهو أمر مستبعد برأينا، ولن يستطيعوا تحقيقه.

من خلال ظواهر الحركة الميقاتية والتفافاتها على الأكثرية الجديدة، وفي ظل الحراك الإقليمي والقلق الحاصل في المنطقة، يبدو أن الحكومة اللبنانية لن تبصر النور قبل انجلاء غبار المعارك في سورية وانقشاع الرؤية الإقليمية وتثبيت الأميركيين أقدامهم في العراق. وهنا تتحمل الأكثرية مسؤولية مزدوجة في المراوحة الحاصلة، مسؤولية عدم التفاهم المسبق مع ميقاتي قبل تكليفه، ومسؤولية المماطلة في التشكيل التي حصلت خلال الشهرين اللذان تلا تكليف ميقاتي، حين كان الأميركيون مشغولون بالحراك الدائر في مصر وليبيا وغيرها، وقبل أن يستدركوا ويبدؤوا هجومهم المضاد على الثورات العربية وعلى محور المقاومة وأساسه سورية. حينها كان من الممكن تشكيل حكومة لبنانية تعكس الأكثرية الجديدة، لكن الفرص ضاعت الواحدة تلو الأخرى، وها قد استعاد الأميركيون المبادرة في الهجوم، وعلى ما يبدو لن يكون هناك حكومة للبنان قبل رمضان القادم، إلا إذا طرأ على المشهد الإقليمي تطورات دراماتيكية وحسمت سورية معركتها السيادية قبل ذلك.

  • استاذة مادة العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية الدولية

أضف تعليق